الحريـــة
في
وجودها..وفي حدودها
ما
أعظم الحرية. تغني بها الكتاب والفلاسفة والشعراء.
بها
يتمتع الإنسان بإنسانيته. وبغيرها يشعر بالقهر والذلّ.
قرأت
وأنا شاب مثلاً إنجليزياً يقول: إن فقدت كل شيء ماعدا الحرية. فأنت لا تزال غنياً
If everything - but
liberty - is host, you are still rich.
والحرية
لازمة للشعوب. كما هي لازمة للأفراد. من أجلها جاهدت الأمم إلي حد التضحية
بدمائها. لمقاومة الاحتلال ومقاومة الاستعمار.
وفي
بذل الحياة والدم لأجل الحرية قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وللحرية
الحمراء باب :. بكل يد مضرّجة يُدقُّ
*
* *
لقد
خلق الله كائنات كثيرة بغير حرية. تقودها أنظمة موضوعة لها. أو يقودها غيرها.. ماعدا الملائكة والبشر.
فلهم حرية إرادة.
الشمس
والقمر والنجوم مع علوها وعظمتها. تقود كل تحركاتها واتجاهاتها قوانين الفلك.
والأرض أيضاً مقادة بنفس القوانين سواء في دورانها حول نفسها أو حول الشمس.
والرياح
والأمطار. والحرارة والبرودة. والنور والظلمة. بل حتي البذار في باطن الأرض.
والنبات فوق سطحها.. كلها مقادة بقوانين الطبيعة: لا تتصرف من ذاتها. بل حسب
القانون الموضوع لها.
أما
الحيوانات. فقد منح الله للإنسان أن يقودها. ويتصرف في حريتها. ليست المستأنسة
منها فقط. بل حتي المتوحشة: يمكنه أن يصيدها. وأن يضعها في أقفاص.
*
* *
* أما
الاستثناء. فكان للملائكة والبشر: منحهم الله حرية..
لهم
إرادة حرة.. بإمكانهم أن يطيعوا الله. أو أن يعصوه! وبحرية الإرادة سقط عدد كبير
من الملائكة وصاروا شياطين.. وبهذه الحرية أفسدوا طبيعتهم. ومازالوا يعيثون في
الأرض فساداً.
وبالحرية
سقط الإنسان الأول. وطُرد من الجنة. ولا يزال في حريته يتأرجح بين ثنائية خطيرة:
هي الخير والشر. الحلال والحرام. ما يجوز وما لا يجوز. وبالحرية يستمر في الشر. أو
يتوب عنه.
هذه
هي الحرية: في فائدتها. وفي ضررها.. ولا أقصد ضرر الحرية ذاتها. إنما الضرر في سوء
استخدامها.
*
مشكلة أخري في موضوع الحرية. وهي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان
كل
إنسان حرّ. ولكن قد تصطدم حرية إنسان بحرية إنسان آخر. وهنا نري "تنازع
الحريات". ورغبة ذات بشرية في ابتلاع ذات أخري. وسعي الواحد أن يظهر باختفاء
الآخر. أو أن يملك بسلب الآخر. أو أن يقوي بإضعاف غيره. وهكذا وُجد التنافس. بل
وُُجد الصراع. ووجدت الحروب أيضاً.
وفي
نطاق هذه الحرية. قامت دولة علي دولة. وشعب علي شعب. وجماعة علي أخري. وصدق ذلك
المفكر الذي قال:
كم
من الجرائم حدثت باسمك أيتها الحرية!
*
* *
*
لقد منح الله الحرية. وأضاف إليها الإنسان: انحراف الحرية
ولهذا
كان لزاماً أن توضع قيود تمنع الحرية من الانحراف. أو علي الأقل تحدّ من انحرافها.
وهكذا بالانحراف أضرت الحرية بنفسها!
هل
يجوز لنا أن نترك في الطرقات وحشاً هائجاً يهدد المارة؟! كلا. بل نمسكه ونقيده.
ونمنعه من الإضرار بالآخرين. فإن شكا من القيد. نقول بل هو الذي أضر بنفسه.
بهياجه.
إن
الحرية كما منحها الله أمر في منتهي العلو والسمو. يتميز به الإنسان. إن سلك حسبما
أراد الله للحرية أن تكون.
إنك
إن ألقيت جذع شجرة ضخماً في الماء. فإن التيار يوجهه بغير إرادته. فلا يملك أن
يتحكم في مسيره.. ولكن سمكة صغيرة جداً وضئيلة تستطيع أن تتحرك حيثما تشاء. لا
يتحكم فيها التيار. بل يمكنها أن تسبح عكس التيار. لأن لها حرية ليست لجذع الشجرة
علي الرغم من ضخامته.. هنا تظهر عظمة الحرية.
*
* *
* علي
أنه في موضوع الحرية. يقف أمامنا سؤال ردده كثيرون :
وهو:
هل الإنسان مسيّر أم مخير؟
نقول
إنه مخير في كل تصرفاته الأدبية: في أن يفعل أو لا يفعل. يقول أو لا يقول. يسير في
طريق ما أو في غيره. هو حرّ.
لقد
وضع الله لنا أوامر ووصايا إلهية. ومع ذلك لنا الحرية أن نطيع أو لا نطيع. وما
أكثر الذين يعصون الله ويخالفون وصاياه!
كما
أن كل دولة تضع قوانين وأنظمة. والناس في حريتهم يطيعون القانون أو لا يطيعون. وما
أكثر الخارجين علي القانون!
بل
إنه حتي الأطباء يضعون نصائح طبية مفيدة. ويبقي كل شخص حراً: يطيع لفائدته. أو يضر
نفسه بعدم طاعته.
*
* *
* وهنا
يلزم القول بأنه: يقابل كل حرية حساب ومسئولية:
فالإنسان
أو الكائن غير الحرّ لا يحاسب علي أفعاله. أما مع الحرية. فيوجد حساب علي كل ما
يفعله الإنسان خيراً كان أم شراً. فينال المكافأة علي أعمال الخير. كما توقع عليه
العقوبة في شروره.
الله
تبارك اسمه يعطيك الحرية أن تطيعه أو تعصاه. ولكنه يحاسبك. وأمام الدولة تطيع
القانون أو تخالفه. ولكنها تُحاكم.
والعقوبة
علي الخطأ الذي يفعله الإنسان بحريته. هي عقوبة مزدوجة. علي الأرض وفي السماء. وقد
ينجو الإنسان من العقوبة علي الأرض. ولكن تبقي العقوبة في العالم الآخر قائمة. لا
تمحوها إلا التوبة من جانب الإنسان. والمغفرة من عند الله.
*
* *
*
نجيب علي بقية السؤال: هل الإنسان مسير أم مخير؟
قلنا
إنه مخير في أفعاله الأدبية. ولكنه ليس مخيراً في كل شيء. مَنْ من الناس كان
مخيراً في ما ورثه عن والديه وأجداده من قوانين الوراثة: من حيث الشكل. والجنس.
واللون. والطول أو القصر. وفي أمور أخري.. بل ربما في بعض أمراض بالوراثة. وما
أعمق ما قال الشاعر العربي أبو العلاء المعري في ذلك:
هذا
جناه أبي عليّ :. وما جنيت علي أحد
قال
بعضهم "لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً". وإن صدق هذا علي عدم العبودية. إلا
أنه لا يصدق علي قوانين الوراثة.. كما أننا لم نكن أحراراً في اختيار الشعب الذي
ننتمي إليه. ولا البلد ولا القارة. ولا اللغة الأصلية.
*
* *
*
إذن لا وجود لما يسمي بالحرية المطلقة. سواء فيما ذكرناه.
أو
في ما يجب علينا أن نفعله.
فأنت
حرّ في كل ما تفعله. بحيث أنك لا تعتدي علي حريات أو حقوق الآخرين. فأنت لست حراً
أن تسلب حقاً لغيرك. ولست حراً أن تهين غيرك أو تسيء إلي سمعته. أو تقلق راحته.
وليس من حقك أن ترفع صوتك في ضوضاء تزعج بها الآخرين. وتقول: أنا حر أرفع صوتي كما
أشاء!.. وأنت في حريتك تكون مقيداً أيضاً أن تحتفظ بقواعد حسن الجوار مع من يعيش
إلي جوارك.
يمكن
للحرية في ظل هذه القواعد وأمثالها أن نسميها: الحرية المنضبطة.
*
* *
*
من شروط الحرية المنضبطة أيضا: عدم مخالفة النظام العام.
أو
الإخلال بالآداب العامة.
فليس
من حقك مثلاً أن تركب سيارة. وتخالف قواعد المرور. وتقول: أنا حرّ أقود سيارتي
كيفما أشاء وحيثما أشاء!! كلا. لست حراً.. كذلك لست حراً في التهرب من الضرائب. أو
من الجمارك. أو من التفتيش في
الطائرات.
ولست حراً أن تلقي بشيء من الأوراق أو القمامة أو أعقاب السجائر. في الطرقات.
وتقول أنا حرّ ألقي بمهملاتي أينما أشاء!! كذلك ليس التلميذ حراً أن يأخذ معه ورقة
يغش بها في الامتحان. ويقول: أنا حرّ استعمل ما أشاء من أوراق!
وليس
لفاجر أن يقوم بعمل فاضح في الطريق العام ويقول: أنا حرّ.
إن
كل ما يخالف الآداب والنظام العام. لا تسمح به الحرية المنضبطة.
*
* *
* أنت
أيضاً لست حراً في أن تضر نفسك!
إن
نفسك ليست ملكاً لك وحدك. بل هي مِلك للّه الذي خلقها. ومِلك أيضاً للمجتمع الذي
رعاك ورباك. وله عليك حقوق يجب أن تؤديها. لذلك لست أنت حراً في إضاعة نفسك.
فالذي
يقتل نفسه بالانتحار. إنما يرتكب جريمة يعاقب عليها الله. ولا يوافق عليها
القانون. ونفس الوضع ينطبق علي من يضر نفسه عن طريق التدخين أو المخدرات أو
المسكرات. وليس من حقه أن يقول: أنا حرّ: أدخن كما أشاء. وأسكر كما أشاء. وأتعاطي
المخدرات كما أشاء!! لأنه ليس من حقه أن يهلك نفسه. وليس من حقه أن يحرم المجتمع
من وجوده فيه. مؤدياً واجبه نحوه.
*
* *
*
وينبغي لكل إنسان أن يعرف أن الضوابط التي توضع علي حريته. هي لفائدته وليس
لتقييده.
ومن
فائدتها أنها تمنعه من الاضرار بنفسه. ومن الإضرار بغيره. ومن الإضرار بالمجتمع.
ومن مخالفة وصايا الله.
إن
النهر له شاطئان: لا يقيدان مجراه. وإنما يحفظانه.
وإذا
لم تكن للأنهار شواطيء. فإنها تنسكب حينئذ. وتفيض علي الجانبين. وتغرّق الأرض
وتحولها إلي مستنقعات. أتري يستطيع أي نهر أن يحتج علي وجود شاطئين له. ويتهمهما
بأنهما يقيدان حريته؟!
كذلك
أنت: الشاطئان بالنسبة إليك. هما وصايا الله. وقوانين وتقاليد المجتمع. أو
الشاطئان هما الدين والتربية. وكلاهما لفائدتك. فالطفل الذي يرفض التربية. ويرفض
نصائح أبويه أو معلميه ومرشديه. ويحسب كل ذلك تقييداً لحريته. لابد أنه سيفسد
ويفقد الطريق السليم السويّ ويضل. فهل الضلال هو اسم آخر للحرية. أو نتيجة لها؟!
*
* *
*
إن الحرية الحقيقية هي أن يتحرر الإنسان من الأخطاء
فيتحرر
من الخطايا والسقطات. ويتحرر من العادات الرديئة. يتحرر قلبه من كل الشهوات
والمشاعر الرديئة. ويتحرر عقله من كل الأفكار المنحرفة المضللة. يتحرر أيضا من
الخضوع للشيطان وكل أعوانه. ومن تأثير الصحبة الرديئة والمعاشرات المفسدة. ويتحرر
من كل قيادة تفرض سلطانها المضل علي إرادته. لتقوده حسب هواها في مسيرة خاطئة.
هذه
هي الحرية الداخلية: حرية القلب والعقل والإرادة.
والذي
يتحرر داخله من العيوب والنقائص
يمكنه
أن يستخدم الحرية الخارجية بطريق سليم
أما
الذي لم يتحرر من الداخل. فما أسهل أن تقوده الحرية إلي ألوان من التسيب ومن
اللامبالاة.
فمثلاً
الذي يتحرر من الكراهية والقسوة والعنف والظلم. يستطيع أن يستخدم حريته في التعامل
مع الناس بطريق سليم. أما إن كان ظالماً أو قاسياً. وقال: أريد أن استخدم حريتي في
التعامل كما أشاء.. فإنه سوف يؤذي غيره بقسوته وبظلمه وبعدم تحرره من طبعه
الخاطيء.
*
كذلك الذي لم تتحرر عفته من الشهوات الجسدية. فإنه حينما يستخدم حريته لتنفيذ
شهواته. لابد سيؤذي نفسه وغيره. وفيما يظن أنه يستخدم حريته. يكون قد أضاف قيوداً
جديدة علي عفته ونقائه..!
*
وأيضاً الفتاة التي تقول: من حريتي أن ألبس كما أشاء. وأن الهو وأضحك كما أشاء.
تكون النتيجة أنها بهذا الأسلوب الخاطيء للحرية. إنما تُسقط غيرها. وتسقط هي
أيضاً.. وإذ لم تحرر بعد من الداخل. فإنها تستخدم حريتها لضررها وضرر غيرها.
ہ
والطالب الذي يلعب طول العام ويهمل دروسه. ويقول: أنا حرّ في أن أتمتع بوقتي كما
أشاء.. إنما يفقد نجاحه ويضيع مستقبله!
لذلك
نصيحتنا لك: استخدم حريتك لفائدتك وفائدة غيرك
وتحرر
أولاً من الداخل. قبل أن تمارس الحرية الخارجية
*
* *
نصيحة
أخري: لا تحسب أن الحرية هي أن تسلك حسب هواك فهناك أوقات كثيرة تحتاج فيها أن
تضبط نفسك. ولا تدللها بما يجعلك تفقد سيطرتك علي ذاتك. وبالتالي تفقد حريتك
الداخلية.
أما
عن ضبط النفس فهو موضوع طويل. قد نطرقه معاً فيما بعد. إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق