الجَدّية
إن الجدية هي الفارق الأساسي الذي يميز الإنسان الناجح من الإنسان
الفاشل. في شتي فروع الحياة.
فالإنسان الجاد يركز علي طريقه في الحياة. ويهتم بالوسائل التي توصل
إليه. لا يميل عنها يمنة ولا يسرة. ويظل ثابتاً في ذلك حتي يصل إلي غايته. بكل
نجاح وبلا توقف. هو كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة بقوة متجهة نحو غايتها.
وليس كقارب تعصف به الأمواج والرياح في أي اتجاه.
والجدية هي دليل الرجولة والقوة والتصميم.
أمثلة للجديةش
وسنضرب أمثلة متنوعة للجدية في العمل :
فالتلميذ الجاد هو الذي يذاكر علومه الدراسية من أول العام. بكل
مواظبة. وبفهم ومراجعة. ويكون مستعداً لكل سؤال فيها. ولا يكون هدفه هو مجرد
النجاح. وإنما بالأكثر التفوق. ويمكنه بهذه الجدية في تحصيل العلم أن يصل أيضاً
إلي النبوغ.
أما الطالب غير الجاد. فهو يهمل دروسه إلي نهاية العام. بل إلي قرب
أيام الامتحان. ويجد الوقت لا يكفي. فترتبك نفسيته وأعصابه...
كذلك العامل أو الصانع الذي يتميز بالجدية. فإنه لا يهتم بمجرد
الإنتاج. إنما تدفعه الجدية إلي الجودة والإتقان.
وفي جديته يضيف إلي كل ذلك: الدقة في المواعيد. والاعتدال في السعر.
وحسن التعامل. فينجح في عمله. وتروج صناعته.
***
والجدية تظهر أيضاً في عمل كل من الكاتب والخطيب. والصحفي والمؤلف.
وفي حياة العلماء جميعاً...
فرق كبير بين من يحضّر كلمته. ويرتبها وينمقها. ويجهد في جمع
معلوماتها. ويقدمها سهلة في الفهم. وفي القبول... وبين من يتكلم ارتجالاً. بلا
تحضير ولا ترتيب! وتظهر أفكاره مشوشة وناقصة. لأنها صادرة منه بغير جدية. وبغير
احترام لعقول القراء أو السامعين...
وكما يحدث هذا مع رجال
الفكر. يحدث المثل مع رجال العلم. فالذي يتناول العلم في جدية وعمق. ويحرص علي
الارتفاع عن المستوي العادي. باحثاً ومقدماً شيئاً جديداً. علي قدر استطاعته.. هذا
يصل إلي درجة العالم. وينضم إلي مجموعة العلماء. لأنه تناول العلم بطريقة جادة.
***
والجدية أيضاً هي بعض ما تتميز به الحياة العسكرية
فالرجل العسكري هو إنسان جاد في كل شيء: في مواعيد صحوه. وفي انتظامه
في طوابير التدريب. وفي مشيته المنتظمة. وفي كلامه أيضاً بحيث يكون ثابتاً لا يحرك
يديه أثناء حديثه ولا يلوّح بهما. وهو جاد في كل ما يتعلق بالضبط والربط. وجاد في
احترامه لمبدأ الطاعة والتسلسل القيادي...
وبالتالي تنتشر الجدية في حياته كلها. وتتدرج إلي العمليات العسكرية
التي يقوم بها فيما بعد. والتي تتوقف عليها مصلحة الوطن وسلامة أراضيه.
***
والجدية أيضاً تظهر في محيط السياسة. للقادة وصغار الموظفين:
فعضو مجلس الشعب الجاد في عضويته. يدرك تماماً أنه قد صار نائباً
للدائرة. لينوب عن أهلها في خدمتهم وحل مشاكلهم. لذلك يكون دائم الصلة بهم وبأحوالهم
وطلباتهم. بالإضافة إلي اشتراكه في السياسة العامة للوطن. بحيث يدرس الأمور التي
ستعرض علي المجلس. حتي إذا تحدث فيها في الجلسة. يتحدث عن معرفة وبكلام له تقديره
وتأثيره...
أما العضو غير الجاد. الذي يتغيب كثيراً عن الجلسات. أو يحضر بعضها
وهو غير دارس لما يُعرض فيها. والذي لا يكون لعضويته أي تأثير في قضايا بلاده...
فهذا لا تحترم الدائرة عضويته. ولا تتحمس إطلاقاً لإعادة انتخابه في دورة أخري.
لموظف الأمين المتعاون. يحاول أن يجد حلاً لكل مشكلة.
أما الموظف الروتيني غير المتعاون. فإنه يخترع مشكلة لكل حلّ.
***
وفي مجال المعارضة السياسية. فإن المعارض الجاد يحلل المواقف تحليلاً
دقيقاً: إن وجد عيباً يشرحه بطريقة موضوعية. مقدماً البدائل الإيجابية للوضع
السليم. وإن وجد خيراً يمتدحه
إنه يشترك في البناء السياسي. ولا يكون هدّاماً لكل بناء.
وفي نقده يكون موضوعياً. ويبعد عن الشتائم التي تجعل رجال الدولة
يقدمونه إلي القضاء بتهمة السبّ العلني.
إنه مراقب ومحلل. وليس عدواً ومنتقماً...
والمعارضة هي جزء من النظام الديمقراطي. من حيث هي تنبه إلي وجهة
النظر الأخري. ولكن في نبل يتعاون لاستكمال البناء.
المعارضة الجادة المتعاونة. لا تلعن الظلام إن وجدته إنما تضيء شمعة
لتنير الطريق. في حكمة.
***
الإنسان الجاد. يكون جاداً في كل مسئولية تُعهد إليه
لا يهمه إن كانت المسئولية كبيرة أو صغيرة. إنما المهم عنده هو
الجدية في أداء المسئولية. والوصول إلي النجاح فيها.
كالممثل الذي يتقن دوره في أية رواية. مهما كان الدور صغيراً. أو
كلاعب الكرة الذي لا يهمه موضعه في الفريق. إنما يهمه أداء دوره في نجاح واتقان.
متعاوناً مع باقي اللاعبين للوصول إلي الهدف.
وبهذا. إن كان كل عضو في المجتمع يؤدي دوره باتقان. تكون المحصلة هي
النجاح الشامل. في صورة متكاملة...
***
صفات الإنسان الجاد
لا نقصد بالجدية العبوسة والتزمت
أو أن يكون الإنسان الجاد بعيداً عن المرح والحياة الاجتماعية.
منشغلاً باستمرار. غير متفرغ للحديث والتبسط مع الآخرين!! كلا. فقد يكون الإنسان
جاداً ومرحاً في نفس الوقت. جاداً في مسئولياته الرسمية. ومرحاً في علاقاته
الاجتماعية وفي معاملاته مع الناس.
إنما نقصد بالجدية. عدم التراخي أو الإهمال في كل عمل يعمله
بل يكون الإنسان جاداً وملتزماً. يتميز باتقان كل ما يعهد إليه من
عمل. يحترم نفسه. ويحترم مبادئه. ويحترم الكلمة التي تخرج من فمه. ويحترم الطريق
الذي يسلكه. ويسير فيه بثبات وعدم زعزعة.
***
والإنسان الجاد يحترم عهوده مع الناس. ونذوره مع الله
إذا تعهد بشيء. يلتزم باتمامه. بمجرد كلمته. لا يحتاج الأمر معه إلي
صك مكتوب. أو إلي شروط رسمية. بل إن كلمته يعتبرها عهداً.
وإن نذر نذراً للّه. يكون جاداً في تنفيذه. تماماً كما خرج من فمه.
لا يحاول تغيير النذر. ولا يؤجل القيام به. ولا يعود فيتفاوض في الأمر. ويبحث ما
المطلوب منه تماماً. ولا يندم علي ما نذره بعد أن استجاب الله مطلبه. ويضع أمامه
تلك القاعدة المقدسة: خير لك أنك لا تنذر. من أن تنذر ولا تفي.
***
كذلك إذا تاب الإنسان الجاد. تظهر الجدية في توبته
هو كإنسان معرض للخطأ. ولكنه إن أخطأ وعزم علي تغيير مسلكه. يكون
جاداً في التوبة. فلا يعود إلي الخطيئة مرة أخري. كما قال أحد الآباء: "لا
أتذكر أن الشياطين أطغوني في خطيئة واحدة مرتين".
وهو إن عزم علي التوبة. لا يؤجلها. بل يكون جاداً في عزمه. لا يرجع
فيه. وإن نفذ عزمه وتاب. لا تكون حياته متأرجحة ما بين قيام وسقوط. يحتفظ بنقاوة
قلبه حيناً. ويعود إلي أخطائه في حين آخر... بل تكون التوبة هي نقطة تحول في
حياته. لا يدركها التغيير.
مثال ذلك: إن كان قد وقع تحت نير عادة سيئة كالتدخين. وقرر أن يبتعد
عنها ويتحرر منها. فإنه بجدية يبطلها.. لا لأيام أو لأسبوع ثم يعود. بل بحزم وضبط
للنفس. وجدية في التنفيذ.
***
والإنسان الجاد. له قلب قوي. لا يضعف أمام الظروف الخارجية
مثال ذلك يوسف الصديق. الذي كان جاداً في حفظ عفته. وضغطت عليه
الظروف الخارجية بكل عنف وبكل إلحاح. ولكنه كان ثابتاً جداً. لا يخضع لذلك مهما
كلفه الأمر. وقد انتصر فعلاً فلم يخطيء. ولكنه دفع ثمناً لثباته وجديته. فيما أتهم
به من إتهام ظالم.
وبالنسبة لأي إنسان آخر. قد لا يأتي الضغط الخارجي في مجال العفة. بل
قد يأتي مثلاً من جهة سهولة الكسب الحرام وإغراء الغني. إن فرّط قليلاً في مبادئه.
أو تساهل فيما يُُعرض عليه!
الأمر يحتاج إلي جدية في الرفض لأن إنساناً قد يرفض الخطأ بلسانه. ثم
تعود إرادته فيضعف. وقد يستمر الضغط الخارجي. فيبدأ في مناقشة مبادئه ومضار الثبات
عليها!! وهنا يكون الخطر...
***
الإنسان الجاد إن اعترضته صعاب في طريق الخير. لا يجعلها تعوقه. بل
ينتصر عليها...
يكون الخير الذي فيه. أقوي من العوائق التي تعطله...
إن تصميمه الداخلي علي إكمال مسيرته. وعزيمته القوية التي تدفعه إلي
قدام. وإصراره علي أنه لا يفشل مهما كانت الأسباب.. كل ذلك يقوي جديته في المضي
قدماً. ومحاولة تخطي العوائق والصعاب..
إنها عوائق. ولكنها ليست موانع. هي عوائق تعترض الطريق. ولكنها ليست
بالضرورة تمنع السير فيه. والإنسان الجاد يجد لذة في الانتصار عليها. وكلما انتصر
علي عائق. تقوي عزيمته بالأكثر. ويزداد الرجاء في الانتصار علي باقي العوائق...
***
إن عائق فقد البصر لم يمنع طه حسين من أن يصير عميداً للأدب في عصره.
بل صار أيضاً وزيراً للتعليم
انتصر طه حسين علي ذلك العائق. لأنه سلك بجدية في تحصيل العلم.
وبجدية في الإنتاج الفكري أيضاً. وقبله انتصر برايل الذي اخترع طريقة للكتابة
والقراءة بالبارز. وقبل برايل انتصر علي عائق العمي القديس ديديموس الضرير. قبل
برايل بخمسة عشر قرناً.
وكثيرون ممن صاروا من مشاهير عصرهم وعظمائه انتصروا علي عوائق من
الفقر. وعوائق اجتماعية. وعوائق جسدية أيضاً فأنقذتهم الجدية التي ولدت فيهم
العزيمة القوية والرغبة في الانتصار علي معوقاتهم. فانتصروا. وفتح التاريخ لهم
أبوابه.
***
لذلك فالإنسان الجاد لا يلجأ إلي الأعذار والتبريرات. يبرر بها نقصاً
في حياته أو تصرفه
إن الأعذار هي غطاء. يغطي به المتهاونون فشلهم. أما الإنسان الجاد.
فلا يعترف بالأعذار أو يلجأ إليها. بل يري أن السبب الرئيسي للفشل هو عدم الجدية.
وباقي الأسباب يمكن الانتصار عليها...
إن نهر النيل لم يعتذر بأن جنادل ستة تعترض طريقه لتعوق مجراه. بل
استمر في سيره حتي وصل إلي البحر الأبيض المتوسط..
والعصاميون الذين كونوا أنفسهم بأنفسهم. لم يعتذروا بأن ظروفهم
الاجتماعية ما كانت تسمح لهم بالوصول إلي ما وصلوا إليه.
والشهداء لم يعتذروا بقسوة الحكام الوثنيين. بل اعترفوا بالإيمان غير
مبالين بتهديد أو تخويف أو تعذيب.
***
الإنسان الجاد ينمو باستمرار. سواء في حياته العملية. أو في فضائله
وحياته الروحية
إنه يضع المثالية في حياته باستمرار كهدف يسعي إليه ولا يتنازل عنه.
ومهما نجح في حياته ومهما ارتفع. فإن جديته تجعله ينسي ما هو وراء. ويمتد إلي ما
هو قدام. الجدية لا تسمح له إن وصل إلي علو معين. أن يتجمد عنده. ولا يرتفع إلي ما
هو أعلي.
الجدية تدفع باستمرار إلي النمو. والسعي وراء الكمال الممكن. وتوجد
في قلب الإنسان الجاد لوناً من الطموح المستمر.
***
والإنسان الجاد لا تخدعه الشكليات ولا يؤمن بها
فالشكليات هي مظاهر خارجية جوفاء. لكنه بطبيعته الجادة يهتم دائما
بالجوهر. حتي في نجاحه لا يهتم بشكلية ذلك النجاح. ولا بما يتلقاه عليه من مديح.
إنما يحكم علي جوهره. وربما يجد فيه نقصاً لا تقبله جديته. فيسعي إلي علاج ذلك
النقص...
ليتكم جميعاً تكونون جادين
في حياتكم. ولا تكتفوا بمجرد النجاح. بل اسعوا إلي التفوق والنبوغ. بكل جدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق