الجمعة، 27 أبريل 2012

التأمّل - لقداسة البابا شنودة الثالث

التأمّل

التأمل هو نظرة عميقة للأمور. لا يعمل فيها الفكر وحده. بل الروح أيضاً. وأحياناً يكون التأمل موهبة روحية يستقبل بها الإنسان معرفة فوق المعرفة العادية.
وحينما يتأمل الإنسان شيئاً. يمعن النظر فيه. ويدقق ويفحص. ويحلل ذلك الشيء ليري ما أعماقه.
وللتأمل مجالات عديدة. لمن يريد أن يستشف ما توحي به.
هناك تأمل في كلام الله ووصاياه. وتأمل في الصلاة والتراتيل والألحان. وتأمل في الخليقة والطبيعة. وفي السماء والملائكة. وفي الموت والدينونة وما بعدها.. وهناك تأمل في الأحداث. وتأمل في الفضيلة عموماً وتفصيلاً. وتأمل في المطلق. في الحق وفي الخير. وتأمل في صفات الله الجميلة.. وموضوعات التأمل أكثر من أن نحصيها. والإنسان الروحي يستطيع أن يتأمل حتي في الماديات. ويستخرج منها بعض المعاني الروحية.
***
نتناول أولاً التأمل في كلام الله ووصاياه
إن كلام الوحي الإلهي عبارة عن روح متجسدة في ألفاظ
الكلمات هي مجرد غلاف. يغلف المعاني في داخله كالصدفة التي تحوي داخلها اللولؤ. واللؤلؤ هو روح الكلمات. فلا تكتفي بالصدف. بل اكشفه بالتأمل واستخرج ما فيه من اللآليء.
كما صلّي داود النبي وقال: "اكشف يارب عن عينيّ. لأري عجائب من شريعتك".
وبهذا يكون التأمل في كلام الله. هو محاولة لاكتشاف الأسرار الإلهية الموجودة في الوحي الإلهي. وليس مجرد الألفاظ. فكلام الله هو روح وحياة ويكتشفه الروحيون. ويحولونه إلي حياة يعيشونها..
وبالصلاة ينير الله تأملاتنا في وصاياه. فنقول له "بنورك يارب نعاين النور". وهكذا بهذه الاستنارة الروحية نهتف مع داود النبي قائلين "لكل كمال رأيت منتهي. أما وصاياك فواسعة جداً".
***

أما المجهود الذي تقوم به عقولنا وقلوبنا في التأمل. فإننا نحسبه كمجرد طلب نرجو به أن تفتح النعمة عقولنا. لتستقبل ما تسكبه الروح فيها.
فعملنا هو أن نقدم عقولنا للّه لكي يملؤها بالفهم الذي من عنده. وما أعمقه! إذن الخطوة الأولي التي يقوم بها الذهن في التأمل في كلام الله. هي مجرد فتح الباب لعمل نعمة الله في أذهاننا. وليس الأمر مجرد كدّ الذهن ليفهم.
ذلك لأن التفكير العقلي المحض. الخالي من عمل الروح. لا ينتج تأملاً.. بل قد ينتج علماً أو فلسفة. وهنا نفرّق بين العالم والعابد. وبين الدارس والمتأمل. بين الباحث في الكتب. والذي يستقبل من الروح.
إذن التأمل في كلام الله. ليس هو مجرد عمل عقلي. إنما ترك العقل ليكون أداة في يد الروح. ثم تبتهل الروح بالصلاة لتأخذ من الله. والذي تأخذه. تعطيه للعقل.
***
ننتقل إلي التأمل في القراءة النافعة التي تقود إلي المعرفة
القارئ السطحي قد يقرأ كثيراً ولا يتأمل. أما القارئ الروحي. فإن القليل من قراءته يكون له نبع تأملات لا ينضب.
إنه لا يركز علي كثرة القراءة. إنما علي ما فيها من تأملات.. وقد تستوقفه كلمة أو عبارة. فيغوص في أعماقها. وقد يفتح الله قلبه. فيري في تلك العبارة الواحدة كنزاً عظيماً. مهما اغترف منه فلا ينتهي.
وهناك أشخاص من عمق تأملهم في عبارة واحدة. يتخذونها مبدأً في حياتهم. وحكمة يسيرون عليها. مثل المتأمل في عبارة "بدلا من أن تلعنوا الظلام. أضيئوا شمعة". أو مثل عبارة "الذي لا تستطيع اتخاذه صديقا. لا تجعله لك عدواً". أو كعبارة "رابح النفوس حكيم".
***
وإن لم تكن لك موهبة التأمل. اقرأ تأملات الأبرار.
فسوف تجد عمقاً كبيراً في تأملاتهم. وتتعلم منها كيف كانوا يتأملون. وكيف أنهم لم يقفوا مطلقاً عند المعني السطحي للكلمات.. وبقراءتك لأمثال هؤلاء. تجد أن الله قد فتح لك طاقات من نور تشرق علي ذهنك. وكما قال الشاعر:
فخذوا العلم علي أربابه . واطلبوا الحكمة عند الحكماء
وبقراءة كتب الذين لهم عمق في التأمل. تكتسب أنت أيضاً عمقاً.. وهنا تدرك فائدة التلمذة في التأمل. وبكثرة القراءة لهم. تنمو.
والتأمل الروحي ينقي ذهنك. فلا يسرح عقلك في أمور باطلة..
بل هذا العمق في التأمل. يعوّدك العمق في أمور كثيرة. ويبعدك عن السطحية.
ويقدم لك غذاء روحياً نافعاً لبنيانك الداخلي. ويمنحك حكمة. ويغيّر اسلوبك في التفكير. بصفة عامة.
***
التأمل في الطبيعة
ولسنا نقصد مجرد التأمل في الطبيعة. بل بالأكثر ما تقدمه من روحيات.
فالتأمل في الفلك وعالم النجوم والكواكب والمجرات. وما يربطها من نظم عجيبة وثابتة يعطيك فكرة عن قدرة الخالق لأن "السماوات تحدث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه". وكما قال الشاعر:
هذي الطبيعة قف بنا ياساري .. حتي أريك بديع صنع الباري..
إن التأمل في السماء والسماويات. لاشك يرفع عقل الإنسان وقلبه. ويسمو به كثيراً عن الأرض والأرضيات. وعن المادة والماديات.
ومن عمق النظام الموجود في السماء. الذي يربط بين الأجرام السماوية بعضها البعض. فإن أحد الفلاسفة القدامي لقب الخالق بالمهندس الأعظم.
وإن كان التأمل في طبقات السماوات يعطي عمقاً في التفكير. فكم يكون التأمل في "سماء السماوات" حيث عرش الله.
***
علي أن التأمل في السماء. لابد أن يصل بنا إلي التأمل في الملائكة:
هؤلاء الذين يسمونهم بالقوات السمائية. والذين موطنهم الأصلي في السماء. ولكن الله يرسلهم أحياناً برسالات يؤدونها علي الأرض. مثل ملائكة البشارة. وملائكة الرحمة.
والتأمل في الملائكة وعملهم. يسبح بفكرنا في جمال الملائكة. وقداسة الملائكة. وطاعة الملائكة لله. وقوة الملائكة. وما يحيط بكل ذلك من قصص ومن أخبار.. وكذلك التأمل في علاقة الملائكة بالبشر. وماذا ستكون علاقتنا بهم في العالم الآخر.
ويجرنا هذا الأمر إلي التأمل في أرواح الأبرار الذين تركوا عالمنا الآخر. وصعدوا إلي السماء. وما وضعهم هناك؟ وما علاقاتهم المتنوعة.
وربما يجعلنا هذا أن نتأمل أيضاً في القيامة العامة. وما بعدها. وكذلك التأمل في النعيم الأبدي وكيف يكون؟!
فإن لم نقوَ علي التأمل في كل ما يخص السماء والسماويات. فلنهبط إلي هذه الأرض للتأمل في الخليقة الأرضية أيضاً.
***
التأمل في الخليقة
نتأمل أولا في الجمال العجيب الذي أوجده الله علي الأرض.
ولم يقصد الله مجرد التأمل الحسي في زهور وسنابل الحقول. من حيث جمالها. وتعدد أنواعها. وألوانها. وعطرها. وتناسقها. بحيث ولا سليمان في كل مجده كان يلبسها كواحدة منها.. ولكن الارتفاع فوق الحسّ إلي الله الذي خلقها هكذا. وإلي عناية الله واهتمامه بمخلوقاته.
وكما نتأمل في الزهور المتعددة الألوان والأشكال. نتأمل أيضا في الأنواع العجيبة من الفراشات المتعددة الألوان والأشكال. وبنفس التأمل في الأسماك الملونة. وفي أنواع الطيور وتعدد نغمات أصواتها وأشكالها وأجناسها. ونقف أمام كل هذا ونقول "ما أعظم قدرة الله..!!"
وبنفس التأمل ننظر إلي عالم الحيوان في طباعه وأجناسه.
***
بل قدرة الله نراها أيضا في كائنات صغيرة كالنحل والنمل.
إن النظام المذهل الذي تعيشه مملكة النحل. هو مجال لتأمل عميق.. كيف خلقها الله بهذه الإمكانيات والقدرات.. وكيف تستطيع أن تجمع الرحيق وتصنعه شهدا. وكيف تصنع غذاء الملكات!! وكيف تبني خلاياها بهندسة متقنة عجيبة! وكيف تطير في رحلات بعيدة بحثاً عن الزهور والرحيق! حقا ما أعجبها وما أعظم خالقها! قال فيها أحمد شوقي أمير الشعراء:
مملكة مدبرة .. بامرأة مؤمرة
تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة
أعجب لعمال يولون عليهم قيصرة!
إن كان أمر النحلة هكذا. فماذا نقول عن التأمل في النمل.
إنها درس في النشاط العجيب. توبخ كل كسلان علي كسله..!
حقا. إنني لم أرَ في حياتي كلها نملة واحدة واقفة بلا عمل..! بل كلها دائمة الحركة. دائمة العمل. لا تهدأ. كما أن جماعات النمل درس عجيب في التعاون. لمن يتأمل عملها الجماعي: في حمل أشياء توازي عشرات حجمها. وهي أيضا درس في النظام. إذ تسير في طابور طويل متجهة نحو هدف ثابت. وباتصالات عجيبة بين بعضها البعض. كذلك هي درس في التدبير. إذ تجمع غذاءها من مصادر متعددة. حيث تخزنه في كهوف تحفرها لذلك إلي حين الحاجة إلي هذا الخزين.
***
إن الإنسان الروحي يستطيع أن يتخذ كل شيء مجالاً للتأمل.
أتذكر انني في إحدي المرات كان لي تأمل في نهر النيل. من منبعه في جبال الحبشة. إلي أن يسير في مجري طويل ويروي البقاع والضياع.
كيف نقطة الماء الهينة اللينة إن سقطت بمداومة علي صخر. تحفر فيه طريقاً. وهذا درس منها لنا. وكيف ان شاطئي النهر لا يحدّان من حريته. إنما يحفظانه من الانسكاب والتحول إلي مستنقعات. وهذا درس لنا: فإن وصايا الله. وقوانين البلاد مع النظام العام. لا تحد من حريتنا. بل هي لفائدتنا حتي ننجو من التسيب.. كذلك فإن مياه النهر المحملة بالطمي قد تبدو سوداء في شكلها. ولكنها مفيدة للخصب.. وهكذا التجارب التي يسمح بها الله. ولها فوائد كثيرة.
***
التأمل في جسم الإنسان
يكفي أن نتأمل قدرات كل عضو فيه. وعلم وظائف الأعضاء:
المخ مثلا. وما فيه من مراكز عجيبة. للنظر والسمع والحركة والكلام والفهم والذاكرة.. بحيث إذا لم يصل الدم إلي أي مركز من هذه المراكز. يبطل عمله ويصير صاحبه معوقا. كذلك إذا تلف أو عجز أي مركز.
وأيضاً القلب: وهو كقبضة اليد. ولكنه جهاز دقيق جداً. تتوقف عليه حياة الإنسان. كما علي المخ أيضا.. كيف يعمل القلب. وكيف يضخ الدم إلي أجزاء الجسد الأخري؟ وما أهمية شرايينه وعملها.
ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل أجهزة الجسم البشري. وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب. وبعض هذه الأجهزة إذا تلف لا يقدر كل التقدم العلمي علي إرجاعه إلي وضعه الطبيعي.
وهكذا في كليات اللاهوت قديماً. كما كانوا يدّرسون علم الفلك. كانوا يدرسون علم الطب أيضا. لأنه يعمق الإيمان بقدرة الله الخالق.
إن كانت قدرات الجسد هكذا. حسبما خلقها الله الكلي القدرة. فماذا تكون تأملات في قدرات الروح؟!
***
التأمل في الأحداث
أعني ما مرت علينا من أحداث التاريخ. وما تمر علينا من أحداث يومية. وكلها تدل علي حكمة الله وحسن تدبيره. وتدخله في الأحداث. وبتأمل ذلك ندرك مدي عناية الله بخليقته.
ولعل من الأحداث الكبيرة التي مرت علي العالم انتهاء الوثنية وعبادة الأصنام. وعبادة الطبيعة. وعبادة الحكام والأجداد..
وفي التاريخ الحديث كيف تم انتهاء الشيوعية في روسيا. وما كانت تحمل من إلحاد. وعودة الإيمان اليها. بكل سهولة وبدون إراقة دماء.
إن فصل التاريخ عن الله هو عمل غير روحي
أما الروحيون. فيتأملون يد الله في التاريخ
وقد قال الشاعر:
ومن وعي التاريخ في صدره .. أضاف أعماراً إلي عمره.
علي أن الأحداث الجارية حاليا. لابد تحوي دروسا في داخلها. لمن يتأملها بعمق.. فما هي هذه الدروس؟
إن موضوع التأمل له فروع أخري. لست أري هذه الصفحة تتسع لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق