الضمير والعوامل
المؤثرة عليه
الضمير صوت داخل الإنسان يرشده إلي ما ينبغي عليه أن يفعل. ويبكته
إذا أخطأ. ويرضي عليه إن أحسن وأجاد ولكن الضمير قد يتوقف أحيانا عن العمل. وتقود
الإنسان عوامل أخري. تزيح الضمير جانبا. وتتولي هي قيادة الإنسان!.
والضمير كان موجودا قبل الشريعة المكتوبة
قبل أن يقدم الله للبشرية أقدم شريعة مكتوبة علي يد موسي النبي.
ولذلك فالبعض يسمي الضمير بالشريعة الطبيعية.
مثال ذلك ان هابيل الصديق قتله أخوه. وصار ذلك الأخ مدانا بجريمة
قتل. قبل أن توجد شريعة مكتوبة تقول لا تقتل.. ويوسف الصديق ترفع عن خطية الزنا.
قبل أن توجد شريعة مكتوبة تقول لا تزنِ. وبالضمير وُجد في العالم الوثني فلاسفة
يدعون إلي الخير والفضيلة. دون أن تكون لديهم شريعة إلهية ولكن صوت الضمير كما
قلنا. شريعة طبيعية.
* * *
وكما أن الضمير يمكن أن يتوقف في بعض الأحيان. كذلك يمكن في أحيان
أخري أن يخطيء الضمير..!
فالضمير الذي يلزم الابن بأن يقتل قاتل أبيه. ويأخذ بثأره. هو ضمير
يبرر القتل بل يدعو إليه. ويبكت الابن إن لم يثأر معتبرا نفسه مقصرا في حق دم
أبيه. وبالمثل الضمير الذي يدعو إلي الثأر من أجل العِرض والشرف. فيقوم الشخص
بجريمة قتل. وهو مقتنع تماما أنه بذلك يغسل شرف الأسرة من العار.
كذلك ضمائر من كانوا يؤمنون بالمبدأ المكيافيللي "ان الغاية
تبرر الوسيلة" فضمائرهم تساعدهم علي ارتكاب أخطاء كالكذب والخداع أو كالوقيعة
والدسيسة للوصول إلي أهداف يرون أنها سليمة أو سامية!.
والأمثلة في هذا المجال كثيرة. قد نذكر بعضها في حينه.
* * *
والضمائر علي أنواع: فهناك ضمير صالح. وضمير منحرف.
ضمير ضعيف متساهل. وضمير قوي حازم لا يسكت عن الحق
وهناك علي حسب تعبير علماء النحو: ضمير غائب. وضمير مستتر. ويوجد
ضمير واسع يقبل الكثير في تساهل بلا تدقيق. وعلي عكسه ضمير ضيق يصل إلي الوسوسة.
فيظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ. أو أنه يكبر الأخطاء ويضخمها. ويصل بصاحبه أو بغيره
إلي عقدة الذنب Sense of guilt ويمتزج الضمير هنا بمرض
نفسي.
أما الضمير الصالح فهو مثل ميزان الصيدلي في تحضير الدواء من مواد
معينة: إن زاد بعضها يضر. وإن قلّ يضر. وهكذا يحكم هذا الضمير بكل تدقيق وبكل عدل.
* * *
الضمير تؤثر عليه عوامل متعددة: تقويه أو تضعفه. أو تغير مساره. أو
تشكّل أحكامه
فهو يستنير بالمعرفة السليمة وبالتوعية والوعظ. بينما يُلقي عليه
ضباب وتتغير نظرته بسوء القيادة. وتتنوع ضمائر الناس بالنسبة إلي البيئة
والتقاليد. وتختلف نظرتهم إلي الخير والشرّ.
المفروض أن الضمير يقود إلي الخير. ولكن ما هو الخير؟
هنا يختلف الناس في تعريفه. فيختلف الضمير في حكمه!.
مثال ذلك: طبيب يشفق علي امرأة فيجهضها. أو يقوم بعملية ليستر فتاة
فقدت بكارتها. أو يكتب شهادة مرضية لغير مريض ليبرر تغيبه عن عمله.. وفي كل ذلك لا
يتعبه ضميره ولا يبكته. بل علي العكس يشعر أنه قد عمل خيرا يبهج به قلوب غيره!.
إن عدم تبكيت الضمير علي الخطأ يدل علي خلل في موازينه. أما فرحه
بالخطأ. فيدل علي انقلاب في القيم عنده.
* * *
الضمير تؤثر عليه العقائد والتقاليد
فعابد الوثن إن لم يبخر أمام الوثن ويسجد. يتعبه ضميره. وفي عصر
الدولة الرومانية الوثنية. كان قادة الجيش يبخرون أمام الأصنام قبل أن يدخلوا في
الحرب. وإن كان هناك قائد مؤمن "سرا" ولم يبخر للأصنام مثلهم. ينكشف
أمره ويقتلونه. دون أن توبخهم ضمائرهم علي ذلك. بل كانت عقائدهم تلزم قتله.
وفي الجاهلية كانوا يقومون بوأد البنات. دون أن تبكتهم ضمائرهم علي
قتل الطفلة لمجرد أنها أنثي. فهكذا كانت التقاليد.
ومرّ زمن كان الناس فيه يتعودون علي ما يسمي "كذبة ابريل"
فيكذبون يوم أول ابريل. ويعتبرون ذلك لونا من المزاح لا تبكتهم ضمائرهم عليه. بل
يتبارون في تدبير أبرع كذبة تضحك المجتمع!.
* * *
الضمير أيضا تؤثر عليه الرغبات والعواطف
* يقع إنسان في مشكلة. ويري أنها لا تحل إلا بالكذب. فيكذب وقد يسمي
الكذب ذكاء أو دهاء أو حسن تخلص! وإن حكم عليه ضميره. يخفف من ذلك جدا بالعديد من
الأعذار. ولا يحكم علي نفسه بالشدة التي يحكم بها علي الآخرين.
·
وقد يحب شخصا. فيدافع عن تصرفاته مهما كانت خاطئة. دون أن يتعبه
ضميره. بل يتبعه ان لم يدافع. ويسمي دفاعه الخاطيء لونا من الوفاء والإخلاص تجاه
من يحب!.
ويفعل هذا أيضا في محيط السياسة. بالنسبة إلي الحزب الذي ينتمي هو
إليه. بينما الضمير السليم يدعو إلي النقد الذاتي.
* * *
إن التحيز والمجاملة عقبتان تقفان أمام حكم الضمير
وما أكثر ما يخطيء الإنسان باسم المجاملة. ويسميها ضميره لونا من
المشاركة الاجتماعية. أو الحكمة في التعامل مع الناس. وذلك في مديح إنسان بما ليس
فيه. أو المبالغة في ذلك لإرضائه. وقد ورد ذلك كثيرا في أبيات الشعر حتي قيل
"الشعر أعذبه أكذبه"!.
وحدث هذا عند حملة المحفات عند قدماء المصريين. فكانوا حينما يحملون
أحد الفراعنة علي محفة. يتغنون له قائلين له إن المحفة وهو عليها أخف من وزنها
وحدها.
كذلك مبدأ التحيز يخالف حكم الضمير من جهة العدل.
قال البعض إن الضمير قاض عادل. ولكنه ضعيف. والضعف يقف في طريق تنفيذ
أحكامه.. ولكن الصعوبة الكبري أن يكون الضمير ضعيفا. وفي نفس الوقت لا يكون
عادلا!.
فإن أردت أن تخلص ضميرك من العاطفة والمجاملة. الجأ إلي تحكيم ضمائر
أخري تكون سليمة ومحايدة بعيدة عن تأثير الأغراض.
* * *
الضمير يتأثر أيضا بالمعرفة:
المعرفة تؤثر علي حكم الضمير. سواء كانت معرفة سليمة أو معرفة مضللة.
والمعرفة السليمة تجعل الضمير يستنير بالفهم وإن كان الإنسان قد أخطأ عن جهل.
فبالمعرفة يمتنع عن الخطأ ومن أجل المعرفة أرسل الله الأنبياء والرسل والمعلمين
والمرشدين. لكي يعرّفوا الناس طريق الحق فتستقيم ضمائرهم.
كما أن الشيطان - عن طريق أعوانه - يحاول أن يقود ضمائر الناس في
طريق منحرف. من هنا كان للفلسفات المادية والإلحادية تأثير علي ضمائر الناس. ومنها
فلسفات الأبيقوريين وفلسفة اللذة.
وقد تكون المعرفة عن طريق الأشخاص أو عن طريق القراءة. ولهذا فالذي
يريد أن يحتفظ بضميره سليما. عليه أن يدقق في انتقاء نوعية قراءته. وكذلك نوعية من
يؤثرون علي فكره. سواء من جهة الاجتماعات أو المرشدين أو الأشخاص عموما أو
الأصدقاء.
قال أحد الأدباء: قل لي من هو صديقك. لأقول لك من أنت.
* * *
الضمير يتأثر أيضا بالجماعة. أو بالتيار العام
* في وسط الجماعة يتأثر الإنسان بالانفعال وبضمير الجماعة. وقد يندمج
مع الناس ويقترف أمرا. فإذا ما خلا بنفسه. يلومه ضميره عليه. مثال ذلك: شاب يندفع
في مظاهرة ويهتف ويخرّب. فإذا ما قُبض عليه وأُلقي في السجن. فإنه وهو وحده في
هدوء السجن. يفكر بطريقة أخري غير هتافه وسط الجماعة!.
* أيضا قد يعبث شخص ويلهو وسط جماعة من أصدقائه. وربما يلعب معهم
القمار. أو يشرب ما لا يجوز له شربه. كل ذلك دون أن يصحو ضميره. ولكن إن رجع إلي
بيته وخلا إلي نفسه. يوبخه الضمير!.
* في وسط الجماعة. قد تقود الضمير الشائعات والإثارات وربما يصدق ما
يقولون. ويتصرف متأثرا بما سمع. بينما وهو وحده. تكون له فرصة لمراجعة ما سمع.
فيرفض تلك الشائعات.
* * *
من ناحية أخري. فإن الضمير يتشجع إن أثرت عليه جماعة صالحة بمبادئها
السامية. ويزداد حبه للخير
وتكون أحكامه أكثر صلاحية واتجاها إلي البر. بما رآه في الجماعة
البارة من قدوة صالحة.. ولهذا كان تغيير البيئة إلي الأفضل وسيلة من وسائل التربية
السليمة.
ولكن الضمير قد يتراخي وينام. إن عاش زمنا وسط جماعة خاطئة يمكنها أن
تؤثر عليه. فتتغير مبادئه ويحكم علي الأمور حكما مختلفا. وهذا ما نلاحظه في بعض من
يتركون بلادهم مدة طويلة. أو في من يهاجرون إلي بلاد غريبة عن تقاليدهم.
* * *
علي أن هناك ضمائر قوية. لا يطغي عليها تيار المجتمع. بل هي التي
تؤثر فيه
مثال ذلك بعض المصلحين الذين لم يتأثروا بفساد جيلهم. بل تولوا
قيادته وغيروه إلي أفضل. ولكن ليس كل إنسان أقوي من الجماعة. أما أولئك الأقوياء
المصلحون. فإنهم يتصفون في شخصياتهم بالصلابة والصمود وعدم الانقياد.
ليس كل الناس مثل الجنادل الستة التي تعترض مجري النيل. دون أن تؤثر
فيها كل تياراته ومياهه وأمواجه مدي آلاف السنين.
* علي أن البعض قد لا يتأثرون بالمجتمع بل بالقادة والمشهورين:
أو يتأثرون بمن يكونون في مركز المثالية والقدوة بالنسبة إليهم.
فيعتنقون ما في هذا المثال من مباديء. وما يصدره من أحكام. تتأثر بها ضمائرهم.
وتصير كنسخة منه. بنفس الفكر ونفس الطبع. علي أن ذلك يحدث للمبتدئين بصفة خاصة.
وللذين في مرحلة تكوين مثالياتهم.
* * *
يهمنا أن نتعرض بعد ذلك إلي نقطة هامة وهي الضمير والإرادة:
إذا مالت الإرادة نحو الخطيئة. وعزمت علي تنفيذها. وحاول الضمير
منعها. فإنها تعمل علي إسكات صوت الضمير أو الهروب من صوته. ويقوم صراع بين الضمير
والإرادة. فإما أن ينتصر الضمير. وإما أن تنتصر الإرادة الخاطئة وتنفذ الخطأ.
إن الضمير الصالح هو مجرد صوت يوجه الإرادة نحو الخير. ويبعدها عن
الشر. ولكنه لا يملك أن يرغمها.
يكفي أن يكون مجرد صوت. يصيح باستمرار في عقل الإنسان وفي قلبه: إن
هذا الأمر خطأ. فيشهد للحق.
* * *
والإرادة قد تحاول إسكات الضمير بحجة سلامها النفسي
فهي تريد من الضمير أن يخضع لها ويسكت. لكي تعيش في سلام داخلي. بدون
صراع مع هذا الضمير الذي يعكر صفوها. ويتعب نفسيتها. ويتدخل في حريتها. ويفقدها
الهدوء.
بينما السلام الحقيقي هو سلام الروح المبني علي الحياة الطاهرة في
طاعتها للّه. ولذلك تهرب الإرادة من الضمير ولا تعطيه فرصة!.
إنها تهرب من محاسبة النفس. ومن توبيخ ضميرها لها. بل أيضا تهرب من
ضمائر الناس. من ضمير كل صديق أو معلم يريد تغيير مسلكها.
وقد يجد الضمير أنه ضيف غير مرغوب فيه. أو أن لا فائدة من توبيخه
للإرادة فيصمت. ويمضي الوقت فيتعود الصمت ولا يتدخل في أعمال الإرادة. وتبقي
الإرادة وحدها في الميدان تتصرف بلا رقيب.
* * *
الضمير مثل إشارات المرور في الطريق. قد تضيء باللون الأحمر لكي يقف
سائق العربة. ولكنها لا ترغمه علي الوقوف
ما أسهل أن يخالف السائق إشارة المرور ويستمر في سيره. وتكتب له
مخالفة ولا يبالي إن الضمير مجرد مرشد. أما التنفيذ ففي يد الإرادة. فإذا انحرفت
الإرادة وأسكتت الضمير. هل يُترك الإنسان يهلك؟!.
هذه نقطة تحتاج إلي مقال خاص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق